الدولة العميقة

الدولة العميقة

  • الدولة العميقة

اخرى قبل 3 سنة

الدولة العميقة

د.سالم سرية

عندما تطرح الجماهير الغاضبة في لبنان شعار كلن يعني كلن (اي كلهم يعني كلهم ) وكذا ثوار تشرين في العراق شعار اسقاط نظام المحاصصة الطائفية فانه يقفز الى الذهن فورا شعار الجماهيرالعربية الغاضبة (الشعب يريد اسقاط النظام )في مصر وتونس واليمن وليبيا ...الخ والتي انتفضت في مرحلة الربيع العربي عام2011.ففي هذه الاقطار كانت المطالبة بالإطاحة برؤؤس الفساد اعتقادا منهم انه حينما يطاح برأس النظام يمكن حينئذ بناء الدولة المنشودة .ولكن آمال الجماهير تبددت بعد الاطاحة برؤوس مبارك والقذافي وزين الدين بن علي وعلي عبدالله صالح ثم البشير مؤخرا .والسبب في كل ذلك هو دور الدولة العميقة.

ما هي الدولة العميقة ؟ قبل ان نوضح هذا المفهوم دعوني اشير الى هذا المثال البسيط : من المعروف علميا ان جبل الجليد يظهر منه20% ويغطس منه 80% (لذا اصطدمت سفينة تيتانيك المشهورة بالجزء الغاطس  الغير مرئي وعلى بعد مسافة كبيرة من الجزء الظاهر لجبل الجليد (لان شكله هرمي) وتهشمت .لذا فان اي دولة في العالم لها جانب مرئي (الجيش والبرلمان والوزارات ....الخ ) وجزء غير مرئي هو الدولة العميقة التي اشتكى من دورها مؤخرا ترامب ومكرون .

وكثيرا ما يتم الخلط بين مفردات حكومة الظل والدولة الموازية ودولة داخل دولة والدولة العميقة .الا ان هذه المفردات رغم انها متغايرة الا انها متداخلة . ان مفهوم الدولة الموازية او الكيان الموازي انما تمت صياغته بواسطة المؤرخ الأمريكي (روبرت باكستون) لوصف مجموعة من المنظمات أو المؤسسات التي تُشبه في هيكلها وتنظيمها وإداراتها الدُول، ولكنها لا تعتبر جزءاً رسمياً من الدولة الشرعية أو الحُكومة، وتعمل في المقام الأول على تعزيز الأيديولوجية السياسية والاجتماعية السائدة في الدولة ومثال ذلك حكومة الظل في بريطانيا.وبعض الدول تطلق مصطلح الدولة الموازية على التنظيمات والتحالفات التي تعتبرها معارضة لها كما حدث في تركيا عندما وصفت الحكومة التركية التنظيم السري لـ (غولن) بالكيان الموازي الذي يسعى إلى تقويض الدولة والحكومة (1).حيث كان غولن متغلغلا في صفوف الجيش والقضاة واساتذة الجامعات والعديد من مفاصل الدولة.وعقب المحاولة الانقلابية الفاشلة على اردوغان قام بتنقية الجيش من اتباع غولن (تم تسريح 30 الف جندي وضابط اضافه لتسريح العشرات من القضاة واساتذة الجامعات والاعلاميين و ....الخ.     وعودة الى مفهوم الدولة العميقة نقول انه مفهوم فضفاض ضم في ثناياه خرافات كثيره وتهويلية من قبل الكثير من الحركات السياسية الا انه يبقى حقيقة واقعه بوجهيه الايجابي في الدول الديمقراطية والسلبي في الدول الفاشلة.لقد نشأ مصطلح الدولة العميقة أولا في تركيا في تسعينيات القرن الماضي للتعبير عن شبكات من المجموعات وضباط القوات المسلحة الذين أخذوا على عاتقهم حماية علمانية الدولة التركية بعد قيامها على يد مصطفى كمال أتاتورك ومحاربة أي حركة أو فكر أو حزب أو حكومة تهدد مبادئ الدولة التركية العلمانية، وكان ذلك أول تعريف وظهور لمفهوم الدولة العميقة  (2).

ويشير الباحث باتريك اونيل (في دراسة شاملة عن الدولة العميقة في تركيا وباكستان وايران )الى فضيحة سوسرلك وهو الحدث الذي ساعد على تحفيز فكرة الدولة العميقة في تركيا. ففي عام 1996وقع حادث سير اودى بحياة ثلاثة اشخاص في مدينة سوسرلك التركية وهم :السائق وهو رئيس عشيرة وعضو برلمان والثاني نائب رئيس جهاز أمن اسطنبول والثالث مجرم مثقل بعشرات القيود الأمنية. وأثارت هذه الفضيحة تساؤلات حول حالات التواطؤ بين المسؤولين الحكوميين وقوات الأمن ، والعصابات الإجرامية التي تتشارك في القتل خارج نطاق القضاء، وتمارس نشاطات أخرى غير قانونية ولم تسفر التحقيقات المضنية عن اسباب هذا التحالف بين الاشخاص الثلاثة . كما كانت إحدى النتائج الرئيسة لصعود الدولة العميقة في تركيا أن صاحَب ذلك ارتفاع في عدد الاغتيالات السياسية. فيما بين عامي1978 و 1979 ، عشية انقلاب عام 1980 ، كانت هناك أكثر من 5000 حالة وفاة ناجمة عن تفجيرات واغتيالات، وفِرَق الموت وفي المجموع أكثر من 35 ألف قتيل ما بين عامي 1984 و. 2000  تماما كما هي الحال في العراق .حيث تخشى الحكومة العراقية الظاهرة للعيان سطوة ونفوذ الحكومة العميقة (هذا اذا افترضنا انها ليست متواطئه معها!!!)التي تحرك اذرعها امريكا وايران واطراف خارجية اخرى .وكذا الحال في باكستان  حين تم اغتيال بنازير بوتو وقيدت القضية ضد مجهول في عام2007 .(3)

ويرى وحيد فريد ان  الاستمرارية فى مؤسسات الدولة وأجهزتها هى القاعدة، فمن الطبيعي أن تتراكم لديها مع مرور الزمن أنماط سلوك وقواعد فى الإدارة، وربما تقاليد فى العمل لا يسهل تبديلها، لأن تواترها على مدى فترات طويلة يؤدى إلى تجذرها بدرجة أو بأخرى، وهذا التجذر هو الذى يجعلها عميقة مع اختلاف مدى هذا العمق من حالة إلى أخرى.... فالعمق إذن من سمات مؤسسات الدولة، التى لا تقوم كل حكومة بإعادة تشكيلها وفقاً لتوجهها، أو سياستها الحزبية.(4)

وقد فسّر  المؤرخ الأميركي، كريك كراندن، الدولة العميقةعلى أفضل ما يكون-على حد راي سيار الجميل - بوجود حكومة خفيّة تآمرية عميقة في أحشاء الدولة، تمثلها مراكز قوى، أو سلطة دينية، أو اجتماعية مخفيّة عن الأعين، تعمل ضدّ المصالح الوطنية، لتكبح تطور الدولة دوما، وتقيدها وتسلب مواردها بشتى الوسائل، فتعرقل نمو المجتمع، .(5)

لقد لجأت امريكا الى التغلغل في الدولة العميقة في معظم الدول لغرض تغيير الانظمة التي لا تتوافق مع مصالحها كما عززت وجودها في الانظمة المتحالفة معها باعتبار انها تشكل الاحتياطي المضموم للثورة المضادة ولنا في فنزويلا (حركة رئيس البرلمان )ومحاولة غولن الانقلابية في تركيا امثلة على ذلك.وفي العراق كان الغرض من قانون اجتثاث البعث وحل الجيش العراقي هو اجتثاث الدولة العميقه للنظام الوطني السابق بصفتها الإيجابية وبناء دولة عميقة سلبية وهدامة متحالفة مع القوى الخارجية . والحديث عنها يطول (دراسة عميقة وشامله للدكتور رياض سندي في المصدر السادس (6) .

لقد كشفت امريكا في وثيقة pds(متوفره عاليوتيوب)دورها الباطني في انتفاضات الربيع العربي .فهي لم تكن مكتوفة الايدي بل كانت تقود سيناريو الانقضاض على آمال الجماهير فاصطدمت سفينة الثوار في الجزء الباطني من جبل الجليد (الدولة العميقة ) في اليمن ومصر وليبيا وتونس والسودان ...الخ .ففي اليمن تمت ازاحة علي عبدالله صالح من المشهد لكنه بقي يقود الوية الجيش المؤيدة له ويناور على من اسقطوه حتى قتل.وفي مصر انقضت الدولة العميقة على مرسي واستغلت أخطائه وقلة تجربته في الحكم بعد ان تخلت امريكا عن دعمه .أما في تونس فلا زالت تعاني الويلات من تركة زين الدين بن علي الثقيلة .وفي السودان تمت الإطاحة بالبشير الا ان الدولة العميقة لا زالت تمسك بزمام الامور الاقتصادية والسياسية فيه .ان الدعوة الى نسف الدولة العميقة هي دعوة كارثية لانها تؤدي الى الانهيار والفوضى كما حدث في ليبيا وكما حدث ايضا  في العراق على يد بريمر.فالكوادر العسكرية والاقتصادية والامنية والسياسي الجديدة لا يمكن بنائها بين ليلة وضحاها .ان القول الفصل في الصراع بين الدولة العميقة والجماهير المنتفضه هي المصالح .فالجماهير تنتفض للحصول على لقمة العيش والديمقراطية الحقيقية....الخ والدولة العميقة المتشابكة الاطراف من قضاة وضباط ورجال دين واعلاميين ورجال اعمال....الخ ايضا لهم مصالحهم من بقاء النظام القديم وبالتالي سيقاتلون بشراسة ضد اي تغيير يضر بمصالحهم ولهم من الإمكانيات الاعلامية والماليه القادرة على اختراق وعي الجماهير وتضليلها وخداعها .ان سياسة تغيير الرموز السياسية (كالحال  في لبنان والعراق والسودان مثلا)نراها تطل برأسها بين الحين والآخر لإمتصاص نقمة الجماهير ومعاناتها وبالتالي ترويضها عندما تتبنى مطالب الجماهير المشروعه بعد ان جف ضرع هذه الدول من خلال النهب وبالتالي  افلست وتحولت الى دول فاشلة .

وختاما لابد من القول:

1- ان الدولة العميقة كيان مادي وملموس الأثر يديره عقل منظم لا يعرف إلا لغة المصالح وخروجه إلى دائرةالعلن سببه شعوره بتعرض مصالحه للتهديد بعد الثورة  .

2- عودة الشارع إلى الساحة السياسية وإدراك الشعب لأهمية دوره تشكل تهديدا حقيقيا لتلك الشبكة

العنكبوتية بأذرعها الداخلية والخارجية، ولذلك بدأت ممارسات صناعة الفوضى والتخويف والترويع  للجماهير المنتفضه في لبنان والعراق والسودان حاليا.

3 تعتمد قوى الثورة المضادة، وامتداداتها في الدولة العميقة، إعتمادا كبيرا على استراتيجية صناعة الصورة

الذهنية غير الحقيقية، التي تخالف الواقع المعاش وتسعى إلى بث الرعب في نفوس الجماهير ودفعهم إلى

مهاوي اليأس حتى يسهل عليها تحقيق أهدافها. (7)

الهوامش :

1- الدكتور عارف بني حمد- ظاهرة الدولة العميقة في العالم الثالث 

https://www.ammonnews.net/article/419091

2-  ابراهيم السيد - ما هي الدولة العميقة؟ https://rawabetcenter.com/archives/10366

 3- باتريك اونويل الدولة العميقة: المفهوم الناشئ في علم السياسة المقارن ترجمة الحسن مصباح Siyassat30_2018_Masbah

4- وحيد عبد المجيد -المصري اليوم-10 يناير2014

5- سيار الجميل –في مفهوم الدولة العميقة - 29 نوفمبر 2018

 https://www.alaraby.co.uk            

 6-د.رياض سندي –الدولة العميقة في العراق - الحوار المتمدن-العدد: 5134 - 2016 / 4 / 16  

7-عبد المعطي ذكي ابراهيم –الدولة العميقة في مصر    https://eipss-eg.org

 *فيديو توضيحي للدولة العميقة( لموقع عمون) في هذا الرابط: https://www.youtube.com/watch?v=TWm6--WsYDs

التعليقات على خبر: الدولة العميقة

حمل التطبيق الأن